كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب كانوا يؤذونه ويسمعونه، وقيل: نزلت في شأن عائشة وقال الضحاك والكلبي: نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طريق المدينة يبتغون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدًا، يخرجن في درع وخمار الحرة والأمة، فشكوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات} الآية.
ثم نهى الحرائر أن يشتبهن بالإماء بقوله تعالى: {يا أيها النبي} ذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح {وبناتك} ثنى بهن لما لهن من الوصلة، ولهن من القسمين من الشرف وآخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن {ونساء المؤمنين يدنين} أي: يقربن {عليهن} أي: على وجوههن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئًا منها مكشوفًا {من جلابيبهن} ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظنًا أن ذلك أخفى لهن وأستر، والجلباب والقميص وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، والملحفة: ما ستر اللباس، والخمار: وهو كل ما غطى الرأس وقال البغوي: الجلباب الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال حمزة الكرماني، قال الخليل: كل ما يستر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب والكل تصح إرادته هنا، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها، وإن كان يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين وقال ابن عباس وعبيدة: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رءوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينًا واحدة ليعلم أنهن حرائر.
ولما أمر تعالى بذلك علله بقوله تعالى: {ذلك} أي: الستر {أدنى} أي: أقرب من تركه في {أن يعرفن} أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء {فلا} أي: فتسبب عن معرفتهن أن لا {يؤذين} ممن يتعرضن للإماء فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي: في الصلاة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن انتهى.
ولما رقاهن تعالى لهذا الأمر خفف عاقبة ما كن فيه من التشبيه بالإماء فأخبرهن تعالى بوسع كرمه وجوده بقوله تعالى: {وكان الله} أي: الذي له الكمال المطلق أزلًا وأبدًا {غفورًا} أي: لما سلف منهن من ترك الستر فهو محاء للذنوب عينًا وأثرًا {رحيمًا} بهن إذ سترهن وبمن يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه قال البغوي: قال أنس: مرت بعمر جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع ويظهر أن عمر إنما فعل ذلك خوفًا من أن تلتبس الإماء بالحرائر فلا يعرف الحرائر فيعود الأمر كما كان.
ولما كان المأذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم حذرهم بقوله تعالى مؤكدًا دفعًا لظنهم دوام الحلم عليهم:
{لئن لم ينته} عن الأذى {المنافقون} أي: الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام {والذي في قلوبهم مرض} أي: غل مقرب من النفاق حامل على المعاصي {والمرجفون في المدينة} المؤمنين أي: بالكذب وذلك أن ناسًا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيعون في الناس أنهم قد قتلوا أو هزموا ويقولون: قد أتاكم العدو ونحو ذلك، وأصل الرجفة: التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمى به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة {لنغرينك بهم} أي: لنسلطنك عليهم بالقتل والجلاء، أو بما يضطرهم إلى طلب الجلاء وقوله تعالى: {ثم لا يجاورونك} أي: يساكنونك {فيها} أي: المدينة عطف على لنغرينك وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم {إلا قليلًا} أي: زمانًا أو جوارًا قليلًا، ثم يخرجون منها وقيل: نسلطك عليهم حتى تقتلهم وتخلى منهم المدينة.
وقوله تعالى: {ملعونين} أي: مبعودين عن الرحمة حال من فاعل يجاورونك قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء {أينما ثقفوا} أي: وجدوا {أخذوا وقتلوا} ثم أكده بالمصدر بغضًا فيهم وإرهابًا لهم بقوله تعالى: {تقتيلًا} أي: الحكم فيهم هذا على وجه الأمر به.
وقوله تعالى: {سنة الله} أي: المحيط بجميع العظمة مصدر مؤكد أي: سن الله ذلك {في الذين خلوا من قبل} أي: في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا {ولن تجد لسنة الله} أي: طريقة الملك الأعظم {تبديلًا} أي: ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
ولما بين تعالى حالهم في الدنيا أنهم ملعونون ومهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها بقوله: {يسألك} يا أشرف الخلق {الناس} أي: المشركون استهزاء منهم وتعنتًا وامتحانًا {عن الساعة} أي متى تكون في أي: وقت {قل} أي: لهم في جوابهم {إنما علمها عند الله} الذي أحاط علمه بجميع الأشياء {وما يدريك} أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أنت لا تعرفه {لعل الساعة} أي: التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب {تكون} أي: توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب {قريبًا} أي: في زمن قريب قال البقاعي: ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري في الصحيح: إذا وصفت صفة المؤنث قلت قريبة، وإذا جعلته ظرفًا أو بدلًا ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الاثنين والجمع للذكر والأنثى.
ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله تعالى: {إن الله} أي: الملك الأعلى {لعن} أي: أبعد إبعادًا عظيمًا من رحمته {الكافرين} أي: الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها {وأعد} أي: أوجد وهيأ {لهم} من الآن {سعيرًا} أي: نارًا شديدة الاضطرام والتوقد لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته.
{خالدين} أي: مقدّرًا خلودهم {فيها} أي: السعير وأعاد عليها الضمير مؤنثًا لأنها مؤنثة أو لأنه في معنى جهنم وقوله تعالى: {أبدًا} بيان لإرادة الحقيقة لئلا يتوهم بالخلود المكث الطويل {لا يجدون وليًا} أي: يتولى أمرًا مما يصيبهم بشفاعة أو غيرها {ولا نصيرًا} ينصرهم وقوله تعالى: {يوم} معمول لخالدين أي: مقدرًا خلودهم فيها على تلك الحال يوم {تقلب} أي: تقلبًا كثيرًا {وجوههم في النار} أي: ظهرًا لبطن كاللحم يشوى بالنار حالة كونهم {يقولون} وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل متمنين بقولهم: {يا ليتنا أطعنا} أي: في الدنيا {الله} أي: الذي لا أمر لأحد معه لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدّر أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني.
ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع أعادوا العامل بقولهم: {وأطعنا الرسول} أي: الذي بلغنا عنه حتى لا نبتلي بهذا العذاب.
تنبيه:
تقدم الكلام على القراءة في {الرسولا} و{السبيلا} أول السورة عند {الظنونا}.
{وقالوا} أي: الأتباع منهم لما لم ينفعهم شيء متبرئين بالدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلًا ولا يشفي غليلًا {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضور زيادة في التوثيق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} يعنون قادتهم الذين لقنوهم الكفر، وقرأ ابن عامر بألف بعد الدال وكسر التاء على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بغير ألف بعد الدال وفتح التاء على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء {فأضلونا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة {السبيلا} أي: طريق الهدى فأحالوا ذلك على غيرهم كما هي عادة المخطئ من الإحالة على غيره مما لا ينفعه.
ثم كأنه قيل: فما تريدون لهم فقالوا: مبالغين في الرقة للاستعطاف بإعادة الرب.
{ربنا} أي: المحسن إلينا {آتهم ضعفين من العذاب} أي: مثلي عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا {والعنهم لعنًا كبيرًا} أي: اطردهم عن محالّ الرحمة طردًا متناهيًا، وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي: لعنًا هو أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة أي: كثير العدد.
ولما بين تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: صدقوا بما يتلى عليهم {لا تكونوا} بإيذائكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر زينب وغيره كونًا هو كالطبع لكم {كالذين آذوا موسى} من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم حين قسم قسمًا فتكلم فيه بعضهم فقال: «لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر». واختلفوا فيما أوذي به موسى، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما تستر هذا الستر إلا من عيب بجلده إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا» كما قال تعالى: {فبرأه} أي: فتسبب عن أذاهم أن برأه {الله} الذي له صفات الجلال والكمال {مما قالوا} فخلا يومًا وحده ليغتسل فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ففر الحجر بثوبه فجمح موسى عليه السلام وأخذ عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر به، وطفق بالحجر يضربه بعصاه فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، والأدرة: عظم الخصية لنفخة فيها وقوله: فجمح أي: أسرع وقوله ندبًا هو بفتح النون والدال وأصله: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد فشبه به الضرب بالحجر، وقال قوم: إيذاؤهم إياه لما مات هارون في التيه ادّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة عليهم السلام حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله فبرأه الله مما قالوا، وقال أبو العالية: هو أن قارون استأجر مومسة أي: زانية لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمها الله تعالى وبرأ موسى من ذلك، وكان ذلك سبب الخسف بقارون ومن معه وقال عبد الله بن مسعود: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلانًا كذا لناس من العرب، وآثرهم في القسمة فقال رجل: هذه قسمة والله ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت: والله لأخبرن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ثم قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» والصرف بكسر الصاد: صبغ أحمر يصبغ به الأديم.
ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال تعالى: {وكان} أي: موسى عليه السلام كونًا راسخًا {عند الله} أي: الذي لا يذل من والاه {وجيهًا} أي: معظمًا رفيع القدر ذا وجاهة يقال وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا كان ذا جاه وقدر قال ابن عباس كان عظيمًا عند الله تعالى لا يسأله شيئًا إلا أعطاه وقال الحسن كان مجاب الدعوة وقيل كان محببًا مقبولًا.
ولما نهاهم عن الأذى أمرهم بالنفع ليصيروا ذوي وجاهة عنده مكرر للنداء استعطافًا وإظهارًا للاهتمام بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي: صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة {وقولوا} في حق النبي صلى الله عليه وسلم في أمر زينب وغيرها، وفي حق بناته ونسائه وفي حق المؤمنين ونسائهم وغير ذلك {قولًا سديدًا} قال ابن عباس: صوابًا وقال قتادة: عدلًا وقال الحسن: صدقًا وقال عكرمة: هو قول لا إله إلا الله. وقيل: مستقيمًا.
{يصلح لكم أعمالكم} قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم وقال مقاتل: يزكي أعمالكم {ويغفر لكم ذنوبكم} أي: يمحها عينًا وأثرًا فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {ومن يطع الله} أي: الذي لا أعظم منه {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته في الأوامر النواهي {فقد فاز} وأكد ذلك بقوله تعالى: {فوزًا عظيمًا} أي: ظفر بجميع مراداته يعيش في الدنيا حميدًا وفي الآخرة سعيدًا.
ولما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدب النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الآداب بين أن التكليف الذي وجهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم بقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} واختلف في هذه الأمانة المعروضة فقال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده عرضها {على السموات والأرض والجبال} على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات، وإيتاء الزكوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن أسلم: هو الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانتي استودعتكها، فالفرج أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء قليل ولا كثير وهي رواية الضحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف أن الله تعالى عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها قلن: وما فيها؟ فقال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن {فأبين} على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها {أن يحملنها} أي: قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابًا ولا عقابًا {وأشفقن منها} أي: وقلن ذلك خوفًا وخشية وتعظيمًا لله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة، وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا ولو ألزمن لم يمتنعن من حملها فالجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض: {ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} وقال في الحجارة: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال} الآية. وقال بعض أهل العلم: ركّب الله فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن وقال بعضهم: المراد بالعرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض عرضها على من فيهما من الملائكة كقوله تعالى: {واسأل القرية}.
أي: أهلها وقيل: المراد المقابلة أي: قابلنا الأمانة مع السماوات والأرض والجبال فرجحت الأمانة قال البغوي: والأول أصح، وهو قول أكثر العلماء.
تنبيه:
قوله تعالى: {فأبين} أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع تكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإنما ذكر ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث وهو السماوات على المذكر وهو الجبال.
فإن قيل: ما الفرق بين إبائهن وإباء إبليس في قوله تعالى: {أبى أن يكون مع الساجدين}؟
أجيب: بأن الإباء هناك كان استكبارًا، لأن السجود كان فرضًا وههنا استصغارًا لأن الأمانة كانت عرضًا.